السؤال:
سئل الشيخ أبو محمد سيدي عبد الله الشريف ابن سيدي عبد الله الشريف عن مسألة من أصول الدين وردت عليه من فقهاء بجاية نصها:
«حفظ الله كمالكم، ويسر آمالكم، في مسألة رجلين تحاجَّا في قول المتكلمين: «إن القدرة لا تتعلق بالمحال لذاته كالجمع بين الضدين».
فقال أحدهما: «إن الله لا يقدر على الجمع بينهما ولو أراد ذلك»، واحتج في ذلك بأن قال: «إن كان قادِراً على الجمع كان قادِراً على أن يخلق مِثْلَه، لأن ذلك كله من المحال لذاته».
وقال الآخر: «نعلم أنّ القدرة تتعلق بالمحال، ولكنه على تقدير أن لو سبق في علم الله تعالى أن يجمع بينهما لجمع ولقدر على ذلك». وهل قول القائل أوّلا إنه لا يقدر على الجمع، وإن ذلك فيما يجب اعتقاده عنده مما لا يباح أو يقال شرعا أم لا؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.الجواب:
فأجاب رضي الله عنه بما نصه: المعتقد الذي لا يصح غيره أن المحال لذاته لا تتعلق به قدرة، وهذه قضية يكفي في بيان صدقها تصور طرفيها، والتردد فيها ناشئ عن عدم تصورهما على التحقيق.
ويتبين ما قلناه بتصور معنى المحال ومعنى القدرة، فنقول: المعلوم إما أن يكون قابلا للعدم أم لا، فغير القابل للعدم إما أن يكون قابلا للوجود أمْ لا، فغير القابل للوجود هو المعبر عنه بالمحال لذاته وبالمستحيل، والقابل للوجود والعدم هو المعبر عنه بالجائز وبالممكن لذاته، وهذه الأقسام الثلاثة هي الأحكام العقلية، فالمحال منها ما لا يقبل الوجود.
وأما القدرة فعبارة عن صفة وجودية من شأنها تأتي الإيجاد بها على وجه يتصور معها الفعل بدلا عن الترك وبالعكس. هكذا عبر عنها سيف الدين الآمدي.
وقال الشهرستاني: القدرة متهيئة لإيجاد ما يعرض عليها على وجه الجواز دون الاستحالة.
فإذا تصورت معنى القدرة ومعنى المحال علمت ضرورة أن المحال لا تتعلق به قدرة، لصحة قولنا: لا شيء من المحال يتأتى إيجاده، ومتعلق القدرة يتأتى إيجاده. فبيان الصغرى من تفسير المحال، وبيان الكبرى من تفسير القدرة.
وبالجملة فالقضية أبين من أن تبين. وإذا بان أن المحال لا تتعلق به قدرة فهو غير مقدور.
فإن قلت: ما ذكرتموه يستلزم قصور قدرة الله تعالى على الممكن خاصة، وذلك مناف لكمالها وصفات القديم واجبة الكمال.
قلت: كمال كل صفة متعلِّقة أن تتعلق بكل ما يصح تعلقها به، وعدم تعلقها بغيره لا ينافي كمالها، فمتعلق القدرة وهو الممكن، والقدرة القديمة متعلقة بجميع الممكنات، فلا جرم كانت كاملة، والقدرة الحادثة إنما تتعلق ببعض الممكنات فهي إذا ناقصة، ولا واحد من القدرتين يلحقه النقص لعدم تعلقه بالمحال، إذ ليس متعلقا لهما.
ومثاله في الشاهد كمال البصر متعلق بجميع المبصرات، وعدم تعلقه بالأصوات مثلا ليس نقصا فيه، كما أن كمال السمع تعلقه بجميع المسموعات، وعدم تعلقه بالألوان مثلا ليس نقصا فيه، وللمسألة مثل كثيرة، وفيما ذكرناه غنية.
ثم القول بأن المحال تتعلق به القدرة يسد علينا باب إثبات وحدانية الصانع، لأن دليل التمانع لا يتمشى فيه، وكذلك أكثر الأدلة أو كلها. ولوضوح المسألة لم يختلف أحد من المتكلمين فيها.
قال الآمدي في الأبكار: ما علم الله أنه لا يكون، منه ما هو ممتنع الكون في نفسه كاجتماع الضدين، وكون الجسم الواحد في أوان واحد في مكانين ونحوه، ومنه ما هو جائز في نفسه مع قطع النظر عن تعلق العلم بأنه لا يكون أو لم يتعلق.
وقال في النتائج: هو غير مقدور باتفاق، وذكر في الكتابين في القسم الثاني الخلاف فقال: مذهب أئمتنا وأكثر المعتزلة أنه مقدور، خلافا لعباد الصيمري، فوضح أن المحال لا يتعلق به عقلا ونقلا.
فإن قلت: قول القائل لو أراد الله إيجاد المحال أو تعلق علمه به لوجد هي قضية صادقة، فقد جوزتم وجود المحال، وحينئذ يكون متعلق القدرة لجواز وجوده، وإن قلتم هي كاذبة لزمكم جواز تخلف المراد والمعلوم عن الإرادة والعلم القديمين، وذلك محال.
قلت: القضية صادقة لاستلزام مقدمها تاليها وإن كان طرفاها كاذبين لم يتوقف صدقها على صدقهما، بل على الاستلزام فقط. ولما وجب وجود ما تعلق علم الله تعالى بوجوده أو إرادته استلزم تعلقهما بالمحال وجود المحال، لكن وجود المحال محال، فتعلق علم الله وإرادته بالمحال محال، فصح قولنا إذا لو أراد الله تعالى إيجاد المحال أو تعلق علمه به لأوجده، ولا يلزم من ذلك وجود المحال ولا تخلف المراد والمعلوم.
فإن قلت: هل يجوز أن يقال: الله لا يقدر على المحال أو الله غير قادر عليه؟.
قلت: الذي أراه، والله أعلم، أن ذلك لا يجوز لما في اللفظ من إيهام التعجيز. ولما لم يجز إطلاق الألفاظ الموهمة لما لا يجوز إلا بتوقيف، لأن العلم في نفي الجواز إيهام، وذلك مشترك بينهما.
ووجه التكلم في المسألة أن يقال: المحال لا تتعلق به قدرة، أو المحال غير مقدور وشبه ذلك من الألفاظ التي لا توهم نقصا. وقد قال القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله: ومما يجب على المتكلم فيما يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم أن يلزم في كلامه ما يجب من توقيره وتعظيمه وبره، ويراقب حال لسانه ولا يهمله، فإذا تكلم في الأقوال قال هل يجوز عليه الخلف في القول أو الإخبار بخلاف ما وقع سهوا أو غلطا أو نحوه من العبارات، ويجتنب لفظ الكذب جملة، وإذا تكلم في العلم قال يجوز أن لا يعلم إلا ما علم ولا يقول يجهل لقبح اللفظ وبشاعته، وإذا تكلم في الأفعال قال يجوز عليه المخالفة في الأوامر والنواهي ومواقعة بعض الصغائر فهو أدب وأولى من قوله هل يجوز أن يعصي أو يذنب. قال: وإذا كان هذا بين الناس مستعملا في آدابهم وحسن معاشرتهم وخطابهم، فاستعماله في حقه عليه السلام أوجب والتزامه آكد، فجودة العبارة تحسن الشيء أو تقبحه، وتهذيبها يهون الأمر أو يعظمه. وفيما جلبناه من كلام القاضي تأكيد لما ذكرناه، وحدة لما رأيناه، والله الموفق للصواب، وهو حسبي ونعم الوكيل.